الفردوس المفقود.. هنا وهناك.. قراءة في "رحلة مليون شلن. خمسين دولارًا" الفردوس المفقود.. هنا وهناك.. قراءة في "رحلة مليون شلن. خمسين دولارًا"

 

أحمد محمد عبده- روائي مصري

رواية الكاتبة ليلى السياغي، الصادرة عن دار عناوين بوكس 2022، هي رواية المأساة العبثية، وتداعيات الحروب الأهلية. فيها شعوب سيطرت عليها الخرافة والتشدد في الدين، ليكون التطرف والقتل والتشريد والاغتصاب والانحراف والنزوح. والرواية لا تعالج الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا عبر المتوسط؛ فهذه تكون رحلة طوعية مرتبطة غالبًا بالفقر والجوع والقهر، أما "رحلة مليون شلن" فهي رحلة الخوف وبحث المضطر عن الأمان.

تضعنا الكاتبة في أجواء الرواية منذ الإهداء، ومن بعده المُفتتح، وتتجلى حسرة الكاتبة/ الساردة؛ على ما آلت إليه بلاد أبطال الرواية، من خراب ودمار باسم الدين، وجحيم آخر ينتظرهم في "الفردوس المأمول"، في البر الشرقي للبحر الأحمر.. وقد وُفقت الكاتبة في اختيار مدينة عدن لما لها من رمزية النعيم الأخروي، وفي المجمل لا تخلو رمزية الرواية من سخرية ومرارة.

تأسيس- الغرق في المصير المجهول:

فيما يشبه المفاتيح، ويشي بعالم الرواية، تُهدي الكاتبة روايتها "للعابرين البحر، والذين قضوا نحبهم بين الأمواج". من ابتلعتهم الأمواج راحوا لراحتهم الأبدية، وكانوا هم الوقود الجاف لتلك الرحلة القسرية، أما الذين عبروا بسلام، فلم يكن سلامًا خالصًا، فهناك نوع آخر من الغرق ينتظرهم، جسديًا ونفسيًا، الغرق في المصير المجهول! عاشوا لحظات الموت في كل ميلة وكل لطمة موجة لمراكبهم، عاشوه مع رفاقهم الذين لم يجدوا قشة يتمسكون بها، وفيما بعد في كل خطوة مشوها في مجاهيل البلاد التي عبروا إليها، الحلم/ الفردوس! هؤلاء كانوا الوقود الأخضر لرواية "رحلة مليون شلن.. خمسين دولارا". وكانت "رحمة" هي التكثيف الرهيب لتلك الرحلة.

هذا الإهداء إرهاصة يستشف منها القارئ طبيعة رحلة رواد مخيم سماسرة الحرب والتهجير والجنس "فيه يلتقي الفارون من كل أنحاء البلاد، يجترون أمل ركوب قارب النجاة إلى أرض الأحلام، وحلم اكتمال المليون شلن". ثم تتأكد للقارئ صحة رؤيته، للقادم من الأحداث، عندما يقرأ في مفتتحها مشهدًا كونيًا يخلق الكآبة، حين تشارك الطبيعة في تلك المعزوفة السوداء، التي صورتها الساردة:

"تكاثفت الغيوم فجأة، امتد لونها الرمادي ليجثم على صدري- يخنقني هذا اللون الكئيب..."

ثم ينتقل المشهد ليأخذ بعدًا لا أخلاقيًا أشد رعبًا، تختص به المرأة تحديدا، شعرت به الساردة في زحام محطة الباصات في الصومال، وهو ما يوحي بما ستعاني منه البطلة فيما بعد: "فعيونهم تتربص بي، وأكاد أشعر بأصابعهم تتحسس أي موضع من جسدي، يستطيعون الوصول إليه، ويحلمون بالالتصاق به"، وهو ما كان وأكثر بالفعل لرحمة.

وحينما جاءت الحافلة، "النادر توفرها في هذا الجو الممطر.." صعدتْ- الساردة- لتجلس، فتجد نفسها بجوار فتاة "عروقها نافرة، وضعيفة جدا، جسدها هزيل كأنه هيكل من عظم مغطى بجلد"، وحينما لمحت وجهها، "تمتمت بلا وعي: رحمة! إنها هي!"

تتذكر الساردة أوراق الرواية التي كتبتها، وبلل المطر على حقيبتها، وحينما لمحت "المئة ريال المتهالكة" في يد رحمة، تذكرت المليون شلن، عنوان الرواية، أو أن العنوان أعلن عن نفسه بمجرد أن لمست رحمة الحقيبة عفوا، فهو يخصها، والرواية عنها أصلا.

"لم تسمعني وأنا أنطق باسمها، لعله كان صوتًا خرج من بين الأوراق التي لمستْها بلا قصد"، ثم تتساءل: "أقسوة الأقدار أم ألطافها ما جعلتني أصطدم بعينيها الزرقاوين صدفة، في ذات اليوم الذي أكملتُ فيه هذه المُسودة؟ لا أدري، لكنها كانت إشارة تدعوني أن أُخرج هذه الرواية للنور مهما كلفني الأمر."

التقنيات- المتلقي في ضمير المتكلم:

قامت الرواية على منهج السرد الخطي، وبضمير المتكلم، وأحيانًا، استباقًا واسترجاعًا، حسب متطلبات الأحداث، وبوعي فني بنسجها وتطورها. تراوح ضمير المتكلم بين الساردة الأصلية/ صاحبة المُسودة، ورحمة البطلة.

الكاتب لا يختار الضمير الذي ستتحدث به روايته، طبيعة العمل هي التي تفرضه. يأتي الضمير من المطبخ الذي نضجت فيه الرواية: "تأتي الضمائر في السرد حسب الحاجة إليها، فليس كل عمل سردي يصح له أي ضمير". ونقول إن لكل قطعة سردية في العمل ضميرها، "ضمير المتكلم، الدال على الحميمية السردية، وعلى تعرية الذات، وتقديم الحكاية في شكل يتوغل بها إلى أعماق نفس الشخصية "1"

"ولضمير المتكلم القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن، ومن جمالياته: يجعل الحكاية المسرودة متوهجة في روح المؤلف، كما يعمل على التصاق المتلقي بالعمل السردي، متوهما أنه المؤلف نفسه "2"

وظفت الرواية الأسطورة والحكاية الشعبية، مما يؤكد عدم الغرابة فيما تحكيه عن المجتمعات الأفريقية الغارقة في السحر والدجل والشعوذة، ليكون حالها هو الاحتراب والقتل والجوع والاغتصاب.. والتهجير، كما وظفت الأغنية المحلية المعبرة عن الحال السيء والمآل الأسوأ. والتوظيف الفني المناسب لآيات من القرآن، خاصة للشيخ في غرفة الدجل والفجور مع رحمة.

في عملية استرجاع تتذكر رحمة الشوارع التي احتضنت طفولتها السعيدة، حينما وجدت نفسها نائمة بين الجدران المهدمة، ويطبق عليها ما توهمته عفريتا. وعملية استرجاع من نوع آخر، حينما استدعت صورة الشاب "آر"، وهي مستلقية بجواره على الشاطئ، وكانا سيغرقان في البحر، فالرؤى هي انعكاس للواقع، وتتجلى تقنية الحلم، لترى نفسها في مدينة مهجورة، وهو ما يعكس عالمها الذي تعيش فيه، في حين ترمز الحيَّة التي تلاحقها للميليشيات والرجال الذئاب، والحلم من التيمات التي وظفته الرواية لعلة فنية نفسية.

كانت رحمة تحلم أحلامًا تلخص مأساتها النفسية والجسدية: "رأت نفسها تتخبط وسط البحر، وأصابع الموت تخنقها، تهرب منه، فيلاحقها، يكاد يمسك بها، فتراوغه خائفة هاربة"

وتستخدم الرواية استرجاعات جزئية خاطفة، منها "فلاش باك" لما حدث بين صالح العجوز وبائع الطفل حسن، وما دار بينهما، و"فلاش باك" رحمة وهي في غرفتها في بيت الشيخ، تتذكر آر الذي أنقذها، وهو مستلق بجوارها على الشاطئ.. وجميع هذه الاسترجاعات كانت لعوامل نفسية.

لجأت الرواية للتخييل أحيانا، والتخييل في الرواية الواقعية دائما يأتي مجزأ حسب الموقف، ولا يُخيم على مجمل الرواية، يقول الناقد سعيد بنكراد: "التخييل في الأصل هو التخلص من محدودية التجربة الواقعية..."، فربما يقصد تقديم الواقع بصيغة أخرى، محدودة أيضًا، أو شفافة، لتثبيت دعائم التجربة.

وفي إسقاط فني كمثال للتخييل، تربط بين حال رحمة والفراشات:

"طنين ناموسة يقترب منها، فتهشها عن وجهها، حالها كحال الفراشات يغريهن جمالهن، يعشقن الضوء، ينجذبن إليه، لكن الناموسة حذرة، أكثر منهن، حتى لا تحترق أجنحتها الشفافة بلهيب النار."

جاءت الرواية مكتملة بــ "الحالة المدنية"؛ الأسماء والألقاب وأسماء الأماكن، حتى رحمة باسمها الثلاثي. والسرد هنا من النوع الموثوق به، فالرواية وكأنها كتبت مرتان، فهي مُعدة سلفًا في مُسودتها، بواسطة السارد العليم، وبأسلوب المتكلم، وهو في الرواية الواقعية يعرف كل شيء، وتبدو الساردة هنا وكأنها مشارك أصيل في التجربة، مرتان: مرة في الواقع، ومرة في مسودة الرواية. "لكنها كانت إشارة تدعوني أن أُخرج هذه الرواية للنور مهما كلفني الأمر"، وكلفة الأمر هنا هي تلك الرحلة الشاقة.

وفي الحكاية داخل الحكاية، تورد لنا على سبيل الإسقاط، حكاية أمها عن الملكة "أراويللو"، في بلاد الصومال قديمًا، كمنوذج للتنوير، إذ جعلت حاشيتها، الوزراء والمستشارين من النساء، إذن فنحن في ردة قاتلة.

الشخصيات- رحمة ودراما التجربة:

احتشدت الرواية بعناصر الطبيعة، التي عمقت الدلالات، الغربان الجريئة التي تخطف الطعام، والقطة الجائعة، والجبال والرياح والأمطار... كما أدت الهوامش دورها في بيان الأسماء الغريبة.

الشخصية البارزة هنا، والتي ارتسمت بمهارة هي" التجربة نفسها"، وتبلورت التجربة نفسها في شخصية رحمة، وتبلورت تلك البلاد، الجحيم/ الفردوس الجحيم، في شخصية رحمة، كانت هي الشخصية الأبرز في الرواية، كل الشخصيات جاءت من أجلها.

وجاءت رحمة، كأنثى، مناسبة لدراما التجربة، فالأنثى خير من "يَتَمثَّل به، ويُتَمثَّل بكيانها" في ظروف الحرب الأهلية والفوضى، كما جاء الطفل حسن، ليمثل الاستعمال الذكوري في تلك الظروف، بيعه لاستخدامه في اللواط لدى الأثرياء، لكن الكاتبة/ الساردة، أنهتْ حياته مبكرا، آثرت السلامة من معالجة ترددية للحالتين.

وكان للشخصيات نصيب من اسمها، وأحيانا العكس، فرحمة التي تحتاج لمن يرحمها، وصالح العجوز الفاسق، والشيخ التقي الورع الدجال الزاني، وحسن الطفل الجميل البريء... وهي شخصيات من لحم ودم، وهي سمة الرواية الواقعية، وملامحها واضحة في سياقات النص، كل في المنطقة التي يتحرك ويتصرف فيها.

تبدو الرواية وكأنها تجربة ذاتية للساردة، رغم المفارقة التي صنعتها بينها وبين رحمة في المفتتح. هي تجربة مجتمع بأكمله، وحينما نقول رواية واقعية، فيعني ذلك أنها ليست رمزية ولا سيريالية، لذلك "فهي تركز على بناء الشخصيات والتعظيم من شأنها، ورسم ملامحها، وإطلاق الأسماء عليهم، وذلك لإيهام المتلقي بتاريخية هذه الشخصيات وواقعيتها معا" "3"

شخصيات الرواية هنا تعيش اغترابا مزدوجا، مرة في وطنها؛ بالحرب وتداعياتها، ومرة في رحلة الهجرة، والوطن الجديد؛ بتداعيات أشد قسوة ومرارة.

وعن رسم الشخصيات، نقرأ عن الشاب "آر"، الذي أطلعنا على شخصية صالح العجوز، وتذؤبه برحمة "تأملها آر، المستلقي في الزوية المقابلة وهو يحدث نفسه: تحركتْ شهية الصياد! مازالت صغيرة يا كلب". وعن شخصية الشيخ؛ "رجل خمسيني طويل القامة، عريض المنكبين، بوجه داكن ولحية حمراء، تتهدل على صدره، يلف شعره الأبيض الكثيف بعمامة بيضاء.."

وتظهر الأسماء بعكس سلوكها، صالح، الشيخ. والأماكن بأسماء على غير الواقع، في مفارقة تدعو للسخرية: البساتين/ عدن/ الجنة! بينما هي مقديشيو الصغرى، حيث المستنقعات والجيف والحفاء والجوع والعسكر يتلقفون الفتيات بمعرفة القوادين.

عن رحمة.. البطلة:

"تلك التي امتصت أحضان الرجال رحيق عمرها"، صنعت منها الظروف داعرة كلما جاعت، وداعرة محترفة كلما ناغشها شبق لقاءات سابقة، بحكم من ذاق عرف، وبالغت الكاتبة/ الساردة في تجارب امتهانها، و"مرمطتها" في مخادع الدعارة والجوع والتشرد والابتزاز.

أي شقاء هذا الذي تدخل فيه فتاة عمرها 12 سنة، لتدخل في تجارب كهذه، هربت "العمة" ومعها رحمة، فيرسل صالح العجوز وراءهما أحد رجاله، فيقتل الرجل العمة ثم يتحرش برحمة" هذا الوجه وهذا الجسد لا يستحقان الموت"، ثم يغتصبها في الصحراء.

تقلبتْ في "فردوسها" على محطات عدة: محطة صالح العجوز الذي باعها لأول مهرب، وهي ملقاة بجوار الطفل الغريق حسن على شاطئ البحر، جاءها من يجرها ويقول لها "أنا دفعت فيكِ مليون شلن لصالح".

وفي الفردوس الموعود/ اليمن، نلتقي بالشيخ "التقي الورع" الذي انتهك جسدها، والعجوز التي تؤجرها لمن يدفع أكثر" اذهبي لتستحمي، الليلة سيكون لديك ضيف"، وفي يوم آخر" اليوم لدينا ضيف مهم، أحسني استقباله" وتعني رئيس الشرطة، ثم أحد كبار مسئولي عدن، الذي قطع جسدها بأظافره.

بعد موت أمها وأخواتها في الحرب واختفاء والدها، لم تكن تعرف شيئا عن عالم الرجال وجوع أجسادهم، ولا عن مرتزقة الحرب، وفي بيت الشيخ وجدت نفسها في أجواء تؤهلها للدخول في التشدد، التشدد لمن في البيت، وفجوره في الغرف المغلقة؛ فالنقاب ضرورة، وضريح الولي وثن والغناء حرام. وكأن الحروب الأهلية، هي الوسط الملائم دائمًا لافتراس الأنثى، وكأن الذئاب البشرية تنتظرها وتبارك اشتعالها من أجل نزواتها!

إبحار على أمواج السرد:

(مخيم تجميع الضحايا)

تتطرق الرواية بهدوء منذ بدايتها، متنقلة نقلات سريعة ومتطورة، تُنبؤنا بطبيعة خط سير الموضوع، رواية سياسية اجتماعية، سياسية من حيث معالجتها لمشكلة شعب مُبتلى بالتطرف الديني المسلح، واجتماعية من حيث التداعيات الرهيبة على الشعب- رحمة والطفل حسن نموذجًا- وظهور فئات طفيلية، تستغل الأزمة، وسطاء ومرتزقة ومهربون وسماسرة، "بلاد فيها الكلاب آكلة لحوم البشر، والرجال آكلي لحوم أجساد الفتيات". والعنوان/ المال، هو الداء والدواء، الأمان والمساومة، الطُعم والابتزاز، معامل الارتماء في أجواء لقمة العيش والمصير المجهول.

تقابلت الكاتبة/ الساردة مع رحمة صدفة في الباص، كانت تعرف حكايتها، فهي موضوع روايتها، لذلك نجد علاقة وثيقة بين الكاتبة والساردة على غير العادة، فالساردة تعلن عن اسم روايتها في المفتتح، لنجد العنوان والرواية أمامنا من دم ولحم هي وشخوصها.

راحت رحمة إلى مخيم يجمع المشردين، عمرها 12 سنة، صالح العجوز كان يهتم بها، يراقبهما شاب يدعى آر، أبواه ماتا في الحرب، رحمة انجذبت للشاب، فأوصى امرأة خمسينية تبيع الشاي في عشة خارج المخيم، كي تعمل معها لترتزق، اهتمت بها "العمة"، وحدثتها عن ولديها اللذان انضما للجماعات المتطرفة.

وتحشد الساردة بعض سلوكيات المجتمع المُغلق، فتعرض مشهد ختان الفتاة "فرحية"، ابنة الــ 7 سنوات في المخيم، وإعلان طهارتها وعفتها، ثم تموت من التلوث، وترفع الخاتنة نتفة لحم بحجم لسان العصفور، وهي تقول منتشية: "هذه مضغة الشيطان".

تشهد رحمة عملية ختان "فرحية"، تراها قبل الختان، فتصف الساردة مشاعرها "لأول مرة ترى عضوا أنثويا كما خُلق، بلا مقص يشوه وبلا وجه يُطبع في الذاكرة للأبد، ليس سوى الألم الذي يرافقها منذ بلوغها بسبب دورتها الشهرية، التي تجرعها من الألم حد الجنون والرغبة في الموت". هذا غير وصف المشاهد الجنسية خاصة ما كان مع الشيخ، وغيره.

يحاول الناس اقتناص أي فرصة لممارسة الحياة في قلب النار: "البنات والصبية يلعبون لعبة "قرن أيوودون"، الغميضة، والغسيل على الحبال، ووابل الرصاص لا ينقطع"

(في البحر)

للكاتبة خبرة واسعة بهذا العالم المرعب، وكأنها صاحبة التجربة: "دفع المهربون الناس بأعقاب بنادقهم، نحو المركب، فركب من ركب، وسقط في البحر من سقط..."، ثم ينقذها آر، لتجد نفسها ملقاة على الشاطئ بجواره: "أخيرا عبرنا البحر إلى الفردوس المفقود"، ثم تطفو لنا شخصية حسن، طفل الثامنة، فقد أهله، وكان ممن دفعهم صالح بكعب بندقيته، فيسقط، لفظه الموج، وكانت رحمة قد سمعت رجلا يقول في المركب أنه سيبيعه هناك للأثرياء، فهو جميل وصحته جيدة! يتضح من هذا أن صالح العجوز قد قبض ثمنه.

يطرح البحر الطفل بجوارها ميتا وتقوم بدفنه وهي تبكيه؟ ثم تتضح لها الحقيقة: "تلك الأرض التي وعدك بها ذلك المرافق ليست سوى جحيم آخر".

(في الفردوس/ جنة عدن)

تقلبت رحمة فيها على الجمر، استفاضت الساردة في شيها في أفران الشهوة والجوع والتشرد، أغراها الشيخ بالعمل في القصر مقابل مليون شلن خمسون دولارا، شكله غير مريح، وعيونه زائغة، لكنها مضطرة.

ستقوم زهرة بتعليمها أصول الدين، فهي تحفظ القرآن وتقرأ ابن عثيمين، وتقول عن الصوفية إنها انحراف وضلال، وضريح الولي يجب أن يُهدم، والمسبحة بدعة.. هكذا علمها الشيخ، المتظاهر بالتقوى، المتخفي لممارسة الفسق، في مقابل ضريح الولي، الزهد والطهارة والتسامح، وجدت رحمة راحتها أكثر عنده في زيارة خاطفة، مما يشي باستعدادها للسلام النفسي ولو مع الكفاف، تعلقت به أكثر مما تعلقت ببيت الشيخ العامر بالخيرات.

في المرة الأولى، أخفق من التمكن منها، لم تصدق ما رأت، فراحت تبرر موقفه، من أجل اللقمة "رجل مبارك يقوم الليل"، فربما شُبهَ لها المشهد المريع! وفي المرة الثانية يتمكن منها بمعرفة فاطمة زوجته الثانية، بحجة إخراج الجن من فرجها، فلكل شيخ طريقة! والتعليمات أن تدخل عليه بدون ارتداء شيء تحت جلبابها.

"هل يعقل أن يفعل الشيخ ما يفعله أفردا العصابات في الأحراش وخلف جدران الصفيح؟"

ورحمة لا تبحث عن أرض تأويها، تبحث عن هُوية مفقودة في متاهة الاغتراب، فتقابلها سلسلة من الصدمات، وتبلغ قسوة الشيخ الذي حبَّلها في الحرام، أن يتهمها بالزنا، والسرقة، ويطردها، على إثر سقوط قطعة لحمة من رحمها!

وفي زمن الفوضى، يذهب الحياء من وجوه الناس، ويجترؤون على بعضهم، تبحث الفتاة عن حائط متهدم تقضي ليلتها بجواره، فتبلغ جرأة أحد الرجال ليقول لها: "لماذا لا تأتين إلى غرفتي لترتاحي قليلا، المكيف شغَّال!"، فتفلسف المفارقة بطريقتها: "لم أنم في الشارع وسط الحرب، وهنا حيث الفردوس لا أجد مكانًا؟" وفي موضع آخر وقد رآها خارجة من الحمامات المشاع يقول: "لا أجمل من امرأة أنهت حمامها".

يبدو الشغل كله في الرواية عن الجنس والمال والجوع لجسد رحمة، الجنس والافتراس للرجال، مطالب بشرية، لكن الرواية تعالجها كأمراض في أجواء حرب، وليست كمطلب حياتي في ظروف عادية. ومما يُحسب للرواية أنها لم تدخل في تلافيف معمعة الحرب والرصاص والخنادق، كانت تداعيات الحرب أشد بلاغة مما لو عيَّشتنا مع الرصاص.

راحوا إلى فردوس، تُنتهك فيه كرامتهم وأعراضهم، ويتسولون فيه!

اللغة: الواقعية والفنية

لغة طيّعة، شاعرية في مناطق التوهج، تؤدي للدلالة مباشرة، وجاء السرد والحوار بالفصحى، والأساليب الشاعرية في الرواية من أهم جمالياتها: "فكيف نطلق على الرواية أدبًا إذا لم يكن أسلوبها شعريًا" "4"

"صالح العجوز يديرُ المخيم بإيماءات خفية، تعلَّمَ السكون حتى لا يثير فزع الفريسة، وينتظر حتى تقترب الفراشة من الضوء وتلامس النار بأجنحتها".

يتجلى الأدب الأنثوي في هذه الرواية: توصيف إحساسات الأنثى، انتشائها ومعاناتها، في كل ما يخصها كأنثى، وفي كل أحوالها، فاكتظت الرواية بمشاهد لا يجيد كتابة أسرارها وإحساساتها سوى كاتبة/ ساردة.

لسنا أمام رواية مبهمة اللغة معقدة البناء، بسيطة بساطة أبطالها الجوعى، تحتاج لتركيز شديد لتتبع سير الأحداث وربطها ببعضها. تراوحت بين اللغة الواقعية المباشرة والفنية المحلقة: "جسد هلامي يذوب في اللاشيء، فقدت كينونتها المادية"، لغة بعيدة عن النحت غير المأهول إلا فيما ندر: "يتجشؤون الجوع"، كمثال.

ويحتل الوصف مساحات كبيرة من الرواية، وكان دافعًا لتطوير الحدث، وتصوير المشاهد، لم يصل لمرحلة الملل في أحد محطاته، سرد يمتاز بواقعية التحليل وأناقة اللغة. لتأتي كرواية واقعية تتدثر بلغة ملتهبة التهاب أحداثها.

ونتساءل: هل الاهتمام هنا منصب على الحكاية وألاعيب الحكي، وتداعي السرد، أم على تسريب خبرة وثقافة الساردة؟ بل هي الحكاية وألاعيب الحكي...

يلهث السرد بالأحداث، حتى يصل لنقاط فوران تكررت كثيرًا. وأحيانا يطغى أسلوب السرد وجمالياته على الأحداث، ليحدث نوع من التوازن. حينما تساءل الشاعر الألماني مولدرلين في القرن التاسع عشر قائلا" لِمَ الشعراء في زمن الأزمة؟" فيكون من الأولى للسرد أن يتقدم، فله فضاءات أكثر اتساعًا لتلك الأزمة. وها هو سرد "رحلة مليون شلن..." يجسد لنا الوضع المأساوي الذي يعيشه المكان والزمان والشخوص، حتى لنتخيله واقعًا موازيًا على ورق.

المراجع:

ـــ "1" ص 54 في نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة العدد 240

ــ "2" ص191 السابق

ـــ "3" ص 184 السابق

ـــ "4" ص 67 السابق